فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [17].
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي: برهان نير، عظيم الشأن، يدل على حقية ما ثبت عليه من الإسلام، وهو القرآن: {وَيَتْلُوهُ} أي: يتبعه: {شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي: من القرآن نفسه، يشهد له بكونه من عند الله تعالى، وهو إعجازه. وفسرت البينة أيضاً بالإسلام، سماه بينة لغاية ظهوره، إذ هو دين الفطرة، قبل تدنيسها برجس الوثنية والشاهد بالقرآن، فالضمير للرب تعالى {وَمِن قَبْلِهِ} أي: القرآن: {كِتَابُ مُوسَى} وهو التوراة، أي: ويتلو بلك البنية من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك أيضاً. وقوله تعالى: {إِمَاماً} أي: مقتدى به في الدين: {وَرَحْمَةً} أي: نعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع {أُوْلَئِكَ} أي: من كان على بينة: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بالقرآن فلهم الجنة {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} يعني أهل مكة، ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه: {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي: شك من القرآن أو من الموعد: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: به، إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.
لطائف:
الأولى: مَنْ في قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} مبتدأ حذف خبره، لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً. وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم، وبين مصيرهم ومآلهم- كذا قال أبو السعود-.
وفي شرح الكشاف أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا، على أنها موصول، فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف؛ لدلالة الفاء، أي: يعقبونهم أو يقربونهم. والاستفهام للإنكار، فيفيد أنه لا تقارب بينهم، فضلاً عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].
الثانية: قرئ {كتابَ موسى} بالنصب عطفاً على الضمير في {يتلوه} أي: يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه، يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى؛ لما يجدونه مكتوباً عندهم، ويتلو من التلاوة، فتكون الآية كقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [الأحقاف: من الآية 10]- والله أعلم-.
الثالثة: {الأحزاب} جمع حزب، والحزب جماعة الناس. ويطلق {الأحزاب} على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، وهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية؛ لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناوله، وكل من شاكلهم من سائر الطوائف.
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار». قال سعيد: كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} قال: الملل كلها.

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [18].
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً} كقوله للملائكة بنات لله، وللأصنام شفعاء عند الله: {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} أي: يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} من الملائكة والنبيين والجوارح: {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله. قيل: ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه؟! كما مر في يونس، في قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} [طه: من الآية 69].

.تفسير الآية رقم (19):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [19].
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي: عن دينه القويم، كل من يقدرون على صده.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي: يطلبونها معوجة بالكفر، أو يصفونها لهم بالاعوجاج: {وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (20):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [20].
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي: يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا {وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء} أي: يمنعونهم من عقابه {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} لتصامتهم عن الحق وبغضهم له {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لتعاميهم عن آيات الله، وإعراضهم غاية الإعراض، كما قال الله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: من الآية 88].

.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [21].
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} أي: سعادتها وراحتها، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة، كما قيل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس** عليه من الإنفاق في غير واجب

{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: غاب عنهم الآلهة وشفاعتها، ولم تُجْدِهم شيئاً.

.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [22].
{لاَ جَرَمَ} أي: حقاً، أو لا محالة: {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [23].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ} أي: خشعوا له وحده {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [24].
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي: الكفار والمؤمنين: {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} مثل للكافر: {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} مثل للمؤمنين: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} أي: الفريقان: {مَثَلاً} أي: حالاً وصفة: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي: بضرب الأمثال وتدبرها.
ثم قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه، وأن سنة الله فيهم معروفة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [25].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: بأني، وقرئ بالكسر. أي: فقال إني لكم نذير مبين، أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [26].
{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} الباء مقدرة هنا للتعدية، و{لا} ناهية أي: أرسلناه متلبساً بالنهي عن عبادة غير الله {إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي: إن عبدتم غيره: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [27].
{فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي: السادة والكبراء {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.
قال القاشاني: أي: فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، ولا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طوراً بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.
{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي: فقراؤنا الأدنون منا؛ إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
وقوله تعالى: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: بديهة الرأي؛ لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية؛ لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.
تنبيه:
{بادي} قرأه أبو عَمْرو بالهمزة، والباقون بالياء.
فأما الأول: فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.
وأما الثاني: فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلوا. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما {نراك} أو {اتبعك}.
قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً بمن اتبعه من وجهين:
أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة.
والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في إتباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقة وآمن به- انتهى-.
أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعارٍ على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ولما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولابد من إتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبي أو عيي، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.
وقوله تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ} خطاب لنوح وأتباعه: {عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي: تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.
قال الزمخشري: كان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلاً عن أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة، والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، مصغرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!
وقوله تعالى: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي: فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.